ثم جاء المعلم الثاني بعد أرسطو وهو أبو نصر الفارابي، يقول ابن القيم : "وبالغ في ذلك" أي: الفارابي "، وكان على طريقة سلفه" يعني: على طريقة أرسطو "، من الكفر بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. فكل فيلسوف لا يكون عند هؤلاء كذلك فليس بفيلسوف في الحقيقة".
هذه هي القاعدة عندهم، ففي أوروبا الآن إذا تحدث أحد عن الدين قالوا: ليس هذا فيلسوفاً، إنما هو مسيحي، ويقولون له: اذهب إلى الكنيسة ولا تتدخل في الفلسفة والعقل.. فالكلام عن الدين عندهم مهما جاء فيه من نظرية ومن تصور فإنه يعتبر من الدين وليس من الفلسفة في شيء، وهم إنما يخوضون في الفلسفة.
وكل الجامعات العربية فيها أقسام خاصة بالفلسفة، مثل كلية الآداب في جامعة مصر؛ فإن فيها قسماً كبيراً للفلسفة، وقد تخرج منه أمثال الدكتور فؤاد زكريا، والدكتور زكريا إبراهيم، والدكتور علي سامي النشار، وفي جامعة الكويت قسم كبير ونشيط للفلسفة، فعند هؤلاء إذا أردت الكلام فلا تقل: قال الله وقال رسوله، ولو قلت: قال الله وقال رسوله، لقالوا: هذا دين فاذهب به إلى الأزهر!! فلا يبحثون في الدين، ولا يرون فيه أيّ فائدة، بل إن المهم عندهم هو الفكر المجرد، وعندما يتكلمون عن علم النفس الإسلامي، والنظريات الإسلامية، يأتون بكلام ابن سينا، والرازي وهو أبو زكريا الطبيب، والفارابي، ونصير الكفر الطوسي، فيوردون كلامهم على أن هذا هو كلام المسلمين، لكن لو تناول أحد موضوع: الإسلام والنفس. وقال: قال الله تعالى: ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا))[الشمس:7-10]، وقال تعالى: ((إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا))[المعارج:19]* ((إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا))[المعارج:20]، أو ذكر أي آية تتكلم عن نفس الإنسان وطبيعته، وأكثر ما في القرآن هو الكلام عن نفس الإنسان، حتى الحديث عن التوحيد والإيمان في القرآن المقصود به هو إصلاح النفس، فموضوع القرآن هو إصلاح النفس بالإيمان والتوحيد والعبادة، لكن هؤلاء الملاحدة لا أحد منهم يقبل منك هذا الكلام، وكلام النظريات الإسلامية عن النفس هو عندهم ما يقوله ابن سينا وأتباعه، أي: ما ليس فيه رائحة الدين، إنما هو فلسفة محضة، فإذا تجرد الكلام من الوحي ومن نور الإيمان، أصبح عندهم راقياً وعالياً ومعتبراً به، فإذا قيل فيه بالوحي الذي هو النور أعرضوا عنه، وحالهم هذه مماثلة لما كان عليه الجاهليون من قبل : ((وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ))[الزمر:45].
يقول: "فكل فيلسوف لا يكون عند هؤلاء كذلك" أي: يكفر بهذه الأصول الخمسة، "فليس بفيلسوف في الحقيقة. وإذا رأوه مؤمناً بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه، متقيداً بشريعة الإسلام، نسبوه إلى الجهل والغباوة". وذلك كما كان ابن سبعين يقول عندما يرى المسلمين يطوفون عند بيت الله الحرام، كان يقول والعياذ بالله: كالحمر تطوف حول الطاحون!! وهذا كلام من الكفر الشنيع والعياذ بالله! لقد كان يرى أن هذا الفعل غباوة، فيحتقرهم ويرميهم بالغباوة مهما تكن عقولهم.
يقول: "فإن كان ممن لا يشكون في فضيلته ومعرفته، نسبوه إلى التلبيس والتنميس بناموس الدين استمالة لقلوب العوام"، فإذا وجدوا من لا يستطاع أن يشك في علمه وفي عقله وذهنه، لكنه متقيد بالدين، متبع للشريعة والإيمان، قالوا: هذا يضحك على الناس ليستدرجهم؛ لأن أكثر الناس -حسب زعمهم- عوام بهائم، فلو خاطبهم بالعقل لما فهموا، فيخاطبهم بالدين، ومن أعظم من يصفونهم بذلك الرسل صلوات الله وسلامه عليهم؛ لأنهم لو قالوا: إن الرسل لا عقل لهم -عياذاً بالله- لَقَتَلَهَم أتباعُ الرسل، لكنهم يقولون: إن الرسل لبسوا على الناس. فهذا دليل على كفرهم بالله واليوم الآخر وملائكته وكتبه ورسله. قال: "فالزندقة والإلحاد عند هؤلاء جزء من مسمى الفضيلة أو شرط"، فلكي يكون الإنسان فاضلاً عندهم فعليه أن يكون زنديقاً، وهذه هي نظرتهم.
ثم يأتي ابن القيم رحمه الله بالإنصاف فيقول: "ولعل الجاهل يقول: إنا تحاملنا عليهم في نسبة الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله إليهم، وليس هذا من جهله بمقالات القوم وجهله بحقائق الإسلام ببعيد، فإن الذي يقول هذا الكلام هو من يجهل كلام القوم ويحسن الظن بهم، دون أن يسمع منهم شيئاً، وكثير من الناس يقول: لا يعقل أن يقول فلان مثل هذه الأقوال! مع أنه لم يقرأ ولم يسمع له شيئاً، فهو يحسن الظن بهم من غير دليل ولا بينة، فالذي يدافع عنهم إما أنه يجهل ما عليه القوم، أو أنه يجهل الإسلام، بالرغم من إقراره بنسبة هذه الأقوال إليهم، وهكذا الناس: إما أن يجهلوا ما عليه أعداء الإسلام وأهل البدع، وإما أن يجهلوا السنة والإيمان، وما أكثر من يجهلهما معاً! فهو لا يعرف الأعداء ولا يعرف الإسلام، وإنما تراه يدافع بغير علم.